هذه الأسماء – "موسكو -400" و"سمبيلاتينسك -21" و"نهاية الخط" – في مدينة كورشاتوف هي أسماء لمدينة سرية للغاية تم تشييدها على ضفة نهر إرتيش في الشمال الشرقي من كازاخستان، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. المدينة السرية كانت مكانا للعيش والعمل للعلماء السوفييت ولأفراد الجيش ممن يعملون على التجارب النووية.
للوصول إلى مدينة كورشاتوف المحاطة حينها بنقاط التفتيش، كان على الأهل والأصدقاء وأفراد أسر سكان المدينة أن ينتظروا شهورا للحصول على تصريح للزيارة. الخروج من المدينة نفسه لم يكن أمرا سهلا. ومع ذلك، كان يتم تزويد المدينة بأفضل البضائع، ويتم توفير أفضل الإمدادات الغذائية والمشتريات، وتهيئة أفضل ظروف العمل والخدمات الترفيهية لسكانها الذين لم يتجاوز عددهم الـ50 ألفا.
على مدى أربعين عاما شهدت هذه المدينة 456 تفجيرا نوويا، في مساحة لا تتعدى 18.5 ألف متر مربع؛ وارتفعت في سمائها قبل 70 عاما، أول ما صار يوصف بـ"سحابة عش الغراب" النووية، عند موقع للتجارب في سمبيلاتينسك، في الـ 29 آب/أغسطس 1949 تحديدا. تزامنا مع هذا التاريخ، قامت مراسلة من أخبار الأمم المتحدة، نرجس شكينسكايا، برحلة خاصة إلى أرض الانفجارات...
يستغرق الوصول من مدينة سيمي إلى مدينة سمبيلاتينسك السابقة (صار اسمها منذ عام 2007 مدينة كوشارتوف) حوالي ساعتين. وتحتاج الرحلة ساعة أخرى إلى أن تصل إلى نقطة الصفر في أرض الانفجارات. في الحقبة السوفيتية، تم بناء طريق خرساني لتسهيل نقل الأحمال الثقيلة، لكن الطريق صار في حالة سيئة الآن، ولم تتم إعادة ترميمه منذ تلك الأيام.
الآن، تبدو "أرض التجارب النووية" سهولا وسهوبا هائلة مسطحة تنامت فيها الأعشاب الجافة. من حين لآخر تصادفك في السهوب "هياكل مثلثة بشكل غير مألوف" تنتشر في جميع أنحاء الإقليم، لتذكرك بماضي المدينة النووي. قبل 70 عاما، كان كل شيء هناك مختلفا: فلدراسة آثار الانفجارات النووية التجريبية، كان الجيش يبني شوارع بكاملها ويشيد الجسور ويقوم حتى بتشييد ممرات مترو الأنفاق تحت الأرض بعمق 300 مترا مربعا. وكان يتم إحضار "حيوانات التجارب" إلى "منطقة التأثير"، وهذا الجزء من الموقع تحديدا أطلق عليه اسم "أرض التجار".
العديد من السكان المحليين ممن يعيشون هناك، ينقلون لي ذكرياتهم عن تلك الأيام بسهولة: بعضهم يصف "سحابة عش الغراب الرهيبة" بصوت مرتجف، بينما يصفها آخرون بأنها "جميلة" حتى. قبل كل تجربة نووية، كان الجيش يتوجه إلى القرى المجاورة ويطلب من سكانها الخروج أثناء حدوث الانفجار.
"يتذكر جدي كيف فجروا قنبلة هيدروجينية في عام 1955، وكيف أنه شعر بموجة الانفجار وشاهد وميضها" يقول أمير كيرانوف، وهو موظف شاب في المركز النووي القومي الذي تم افتتاحه في مدينة كورشاتوف بعد وقف التجارب.
في ذلك الوقت، لم يكن الكثير من الناس يدركون الخطر الذي يمثله الانفجار النووي على كل شيء حي. ورغم أن العلماء الكازاخيين يقومون بإجراء عملية تطهير للأراضي منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، إلا أن مستوى الإشعاعات هناك لا يزال مرتفعا وما يزال عدد من المواليد يعانون من طفرات جينية في المنطقة المجاورة. جامعة طبية محلية قامت بتوثيق حالات مذهلة عن أطفال يعانون من تشوهات. ومع ذلك لا يحاول أحد هناك التأكيد على أن تلك المشاكل الصحية مرتبطة بشكل مباشر بموقع التجارب النووية السابق. العلم يطلب الدقة الحاسمة، وليس لدى العلماء أرقام كافية، وهذه المشكلة لا ترتبط بالطفرات الجنينة وحدها.
في مدينة سمبيلاتينسك السابقة في الحقبة السوفيتية، كان المرء يسمع طوال الوقت عن حالات انتحار تحدث، كما يخبرنا نورزان إيسنجولوف، الموظف في مجلس مدينة سيمي. حسب قوله، كان الناس "ينهون حياتهم، بشنق أنفسهم مثلا أو بالقفز من أعلى جسر". ومع أنه لا يوجد دليل قاطع يثبت وجود صلة مباشرة بين تلك الحوادث والتجارب النووية "لكن الناس في القرى اعتادوا على ظاهرة الانتحار التي كانت تحدث كثيرا في ذلك الزمان " حسب ما قال لي هذا الموظف في مجلس مدينة سيمي.
نائب رئيس جامعة سيمي الطبية واسمه تولكين بوليجينوف، استطاع أن يؤكد لي فقط ارتفاعا في مؤشرات الأورام المعاصرة، ويقول "في المناطق المجاورة لموقع التجارب، يمكن للمرء أن يتعرض لورم خبيث في الغدة الدرقية. ويقول الطبيب المختص إن "الأورام الخبيثة" – مثل الأورام الدموية وسرطان الدم والأورام اللمفاوية وسرطان الدم المزمن – "تحدث بمعدل أكبر بـ 10 إلى 15 في المئة مما يحدث من مناطق أخرى في كازاخستان" وحسب قوله، فإن هذه الأمراض هي ترتبط مباشرة بطول أمد تعرض المرء للإشعاعات، وتتم الآن متابعة دقيقة لجميع الحالات المسجلة.
ومع ذلك، فإن المعلومات التوثيقية المتعلقة بصحة من تعرضوا للإشعاع المباشر في سنوات الاختبارات والتجارب النووية ذاتها ما زلت محجوبة. في سجلات بوليجنوف في الستينيات، يرد أن إرسالية طبية بحثية تم إرسالها إلى المنطقة برئاسة البروفيسور الطبيب شاباروف، لكن "نتائج الدراسة ما زالت سرية حتى اليوم". التقديرات الرسمية المتاحة تورد أنه على مدار الأربعين عاما، كان هناك ما يقرب من مليون شخص يعيشون في منطقة تأثير الإشعاع.