اليونسكو تكشف في تقرير مثير حقيقة الذكاء الاصطناعي
منذ 6 أعوام
1.4K
بقلم: جان-غابريال غاناسيا
الذكاء الإصطناعي هو نظام علمي بدأ رسميا في عام 1956 في كلية دارتموث في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها أربعة باحثين أمريكيين: جون مكارثي، مارفن مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون. ومنذ ذلك الحين، نجح مصطلح «الذكاء الاصطناعي» -الذي من المحتمل أن يكون قد اخترع في البداية لإثارة انتباه الجمهور -بما أنه أصبح شائعا لدرجة أن لا أحد يجهله اليوم، وأن هذا الفرع من المعلوماتية أخذ في الانتشار أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبما أن التقنيات التي انبثقت عنه ساهمت بقدر كبير في تغيير العالم على مدى الستين سنة الماضية.
إلّا أن نجاح مصطلح «الذكاء الاصطناعي» يرتكز في بعض الأحيان على سوء فهم عندما يشير إلى كيان اصطناعي موهوب بالذكاء، ومن ثم، قادر على منافسة الكائنات البشرية. هذه الفكرة التي تحيل إلى الأساطير والخرافات القديمة، مثل أسطورة غوليم، أُعيد إحياؤها مؤخرًا من قبل شخصيات معاصرة مثل الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنغ (1942-2018) أو رجل الأعمال الأمريكي إلون ماسك، ومن قبل المفكر المستقبلي الأمريكي راي كورزويل أو أنصار ما يسمى اليوم «الذكاء الإصطناعي القوي» أو «الذكاء الإصطناعي العام». هذا ولن نستعمل في هذا المقال المعنى الثاني لأنه يشهد فقط على خيال مفعم، يستلهم من الخيال العلمي أكثر من الواقع العلمي الملموس الذي أثبتته الاختبارات والملاحظات التجريبية.
ومن وجهة نظر جون مكارثي ومارفن مينسكي، كما هو الحال بالنسبة للقائمين الآخرين على المدرسة الصيفية بكلية دارتموث(link is external)، كان الذكاء الإصطناعي يهدف في البداية إلى محاكاة كل واحدة من مختلف قدرات الذكاء، بواسطة الآلات، سواء كان ذكاء بشريا أو حيوانيا أو نباتيا أو اجتماعيا أو تصنيفا تفرعيا حيويا. وقد استند هذا النظام العلمي أساسا إلى افتراض أن جميع الوظائف المعرفية، ولا سيما التعلّم، والاستدلال، والحساب، والإدراك، والحفظ في الذاكرة، وحتى الإكتشاف العلمي أو الإبداع الفني، قابلة لوصف دقيق لدرجة أنه يمكن برمجة جهاز كمبيوتر لاستِنساخها. ومنذ وجود الذكاء الاصطناعي، أي منذ أكثر من ستين سنة، ليس هناك ما يفند أو يثبت بشكل قاطع هذه الفرضية التي لا تزال مفتوحة وخصبة في آن واحد.
سجل تاريخي متباين
شهد الذكاء الاصطناعي العديد من التطورات خلال فترة وجوده القصيرة. ويمكن تلخيصها في ست مراحل.
نشوة الابتكار
في بادئ الأمر، مع نشوة الابتكار والنجاحات الأولى، انجرّ الباحثون في تصريحات مبالغ فيها نوعا ما، استُهدفوا على إثرها بانتقادات كثيرة. وعلى سبيل المثال، في عام 1958، صرّح الأمريكي هيربرت سايمون، الذي حاز في وقت لاحق على جائزة نوبل للاقتصاد، أنه في غضون عشر سنوات ستصبح الآلة بطلة عالمية في لعبة الشطرنج، إذا لم يتمّ استبعادها من المسابقات الدولية.
السنوات المظلمة
بحلول منتصف الستينيات، تعثرت وتيرة التقدم. وتمكن طفل في العاشرة من العمر من التغلّب على جهاز كمبيوتر في لعبة الشطرنج عام 1965. وأشار تقرير أصدره مجلس الشيوخ الأمريكي سنة 1966 إلى القيود المتأصلة في الترجمة الآلية. فتعرّض الذكاء الاصطناعي لدعاية سلبية لمدة عشر سنوات.
الذكاء الاصطناعي الدلالي
ورغم ذلك لم تتوقف البحوث، لكنها أخذت اتجاهات جديدة. وانصب الاهتمام على علم النفس المتعلق بالذاكرة وعلى آليات الفهم لمحَاولة محاكاتها على الكمبيوتر، كما تم الاهتمام بدور المعرفة في التفكير المنطقي. وهذا ما أدى إلى ظهور تقنيات التمثيل الدلالي للمعارف التي تطورت إلى حد كبير في منتصف السبعينات، والتي أدت أيضًا إلى تطوير ما يسمى بالنظم الخبيرة - سمّيت كذلك لأنها قد تتطلب استخدام معرفة خبراء مهنيين لاستنساخ طريقة تفكيرهم. وقد أثارت هذه النظم آمالًا كبيرة في أوائل الثمانينات بفضل التطبيقات المتعددة التي تم انتاجها، ومنها على سبيل المثال، التشخيص الطبي.
الاتصاليّة الجديدة وتعلّم الآلة
لقد أدّى تحسين التقنيات إلى تصميم خوارزميات تعلّم الآلة التي مكّنت أجهزة الكمبيوتر من تجميع المعارف وإعادة برمجتها تلقائيا انطلاقا من تجاربها الخاصة.
وقد أفضى ذلك إلى ظهور تطبيقات صناعية (تحديد بصمات الأصابع، والتعرف على الكلام، إلخ)، حيث تتواجد تقنيات مستمدة من الذكاء الاصطناعي، والإعلامية، والحياة الاصطناعية، وغيرها من الاختصاصات، بغرض توفير نظم هجينة.
من الذكاء الاصطناعي إلى الواجهة بين الإنسان والآلة
اعتبارا من أواخر التسعينات، تمّ ربط الذكاء الاصطناعي بالرُوبوتات وبالوَاجهة بين الإنسان والآلة، لإنتاج حواسيب ذكية توحي بوجود أوضاع عاطفية ومشاعر. مما أدّى، على سبيل المثال لا الحصر، إلى إحصاء العواطف (الحوسبة العاطفية) الذي يقيّم ردود فعل الفرد الناتجة عن مشاعره ليعيد إنتاجها على الآلة، ولا سيما إلى تطوير روبوتات قادرة على المحادثة.
نهضة الذكاء الاصطناعي
منذ عام 2010، بفضل قوة الآلة، أصبح من الممكن استغلال البيانات الضخمة بواسطة تقنيات التعلّم العميق التي تعتمد على استخدام الشبكات العصبية الشكلية. ويجرنا ظهور تطبيقات مثمرة في العديد من المجالات (التعرف على الكلام، التعرف على الصور، فهم اللغة الطبيعية، سيارة ذاتية القيادة، إلخ) إلى الحديث عن نهضة الذكاء الاصطناعي.
تطبيقات
لقد تجاوزت العديد من الإنجازات المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي قدرات الإنسان: لقد هزمت آلة في لعبة الشطرنج بطل العالم في عام 1997، كما تفوقت سنة 2016 آلات أخرى على أحد أفضل اللّاعبين في العالم في لعبة «الجو»، وعلى لاعبين ممتازين في لعبة البوكر. وتقوم أجهزة الكمبيوتر بإثبات - أو بالمساعدة على إثبات - النظريات الرياضية. ويتم بناء المعارف بشكل تلقائي انطلاقا من بيانات ضخمة تقاس بالتيرابايت (1012 بايت) أو حتى بالبيتابايت (1015 بايت)، باستخدام تقنيات التعلّم الآلي.
وبفضل تقنيات التعلم الآلي، تقوم الآلات بالتعرف على الكلام وتدوينه، مثلها مثل السكرتيرة-الراقنة في السابق، وتقوم أخرى بالتعرف بدقة على سمات الوجه أو بصمات الأصابع من بين عشرات الملايين، وقراءة النصوص المكتوبة باللغة الطبيعية. كما وجدت بفضل هذه التقنيات سيارات ذاتية التحكم، وآلات قادرة على تشخيص الورم الميلانيني أفضل بكثير من الأطباء المختصين في الأمراض الجلدية، وذلك اعتمادا على صور فوتوغرافية للشّامات الجلدية يتم التقاطها باستخدام الهواتف المحمولة. وأصبحت الروبوتات تحل محل الإنسان المقاتل في الحروب، وآلية سلسلة الإنتاج بالمصانع في تزايد مستمر.
ومن ناحية أخرى، يستخدم العلماء هذه التقنيات لتحديد وظيفة بعض الجزيئات الحيوية، وخاصة البروتينات والمجينات، من خلال تسلسل مكوناتها -الأحماض الأمينية بالنسبة للبروتينات، والجزء الأساسي بالنسبة للمجين. وبشكل عام، تشهد كل العلوم قطعا معرفيا أساسيا مع ظهور ما يسمى بتجارب «إن سيليكو» (تجارب في بيئة افتراضية)، لأنها تتم بالاعتماد على بيانات ضخمة، بفضل نظم قوية لمعالجة المعلومات تتكون نواتها من السيليسيوم، مما يجعل هذه التجارب تتعارض مع التجارب في الوسط الحي التي تُجرى على الجسم الحي، وعلى وجه الخصوص مع التجارب المختبرية التي تُجرى في أنابيب زجاجية.
وتؤثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع القطاعات تقريبا، وخاصة في الصناعة والبنوك والتأمين والصحة والدفاع، ذلك أنه أصبح من الممكن تحويل العديد من المهام الروتينية الحالية إلى عمليات آلية، وهذا من شأنه أن يغيّر صبغة العديد من المهن وقد يؤدي إلى زوال بعضها نهائيا.
أي مخاطر من الناحية الأخلاقية؟
باستخدام الذكاء الاصطناعي، أصبحت معظم أبعاد الذكاء -ربما باستثناء الفكاهة -موضع التحليل وإعادة البناء العقلاني عن طريق أجهزة الكمبيوتر. وبالإضافة إلى ذلك، تجاوزت الآلة قدراتنا المعرفية في معظم الميادين، مما يجعل البعض يخشى مخاطرها من الناحية الأخلاقية. تتمثل هذه المخاطر في ثلاثة أنواع: ندرة فرص الشغل باعتبار أن الآلة ستعوض الإنسان لتأدية العديد من المهام، والانعكاسات على استقلالية الفرد وخاصةً على حريته وأمنه، وتجاوز البشرية التي قد تزول لتحل محلها آلات تفوقها «ذكاء».
إلا أنه إذا تم تدارس الوضع بصفة دقيقة، يتبين أن الشغل لا يزول بل هو على العكس تماما، يتغيّر ويتطلب مهارات جديدة. وبالمثل، ليس هناك تهديدا لاستقلالية الفرد وحريته بسبب تطوّر الذكاء الاصطناعي، شريطة أن نظل في يقظة أمام اختراق التكنولوجيا لحياتنا الشخصية.
وختاما، خلافاً لما يدّعي البعض، لا تشكل الآلات خطراً وجودياً على البشرية، لأن استقلاليتها ذات طابع تقني ليس إلّا، حيث أنها لا تعكس سوى سلسلة من الروابط السببية المادية، بدءا من جمع المعلومات وصولا إلى صنع القرار. وعلى العكس، لا تملك الآلة استقلالية على الصعيد الأخلاقي، لأنه حتى لو حدث أن أربَكتنا وضلّلتنا أثناء اشتغالها، فإنها لا تمتلك إرادة ذاتية، وتظل خاضعة للأهداف التي حدّدناها لها.